التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جورج حبيب بباوي وتفكيره اللاهوتي



1. فحص لمشروع جورج حبيب اللاهوتي

يُمثل جورج حبيب بباوي نقطة تحول في التاريخ القبطي الحديث، في المقام الأول بسبب ذلك الخلاف المُحتدم الذي نشأ بينه من جهة وبين كل من البابا شنودة أولاً والمتنيح الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ من جهة أخرى. وفي المقام الثاني بسبب اعتباره من قِبَل قطاع من الأقباط بطلاً قوميًا حكم عليه بالنفي والتجريد، وشهيدًا للأرثوذكسية الحقة -في مواجهة لاهوت قروسطي. امتد هذا الصراع خارجًا عن أصحابه، مُسببًا حالة استقطاب حادة لدائرة كبيرة سواء في الداخل الكنسي أو الخارج بين عموم الأقباط. حالة استقطاب حادة، لم تنته بموت أطرافها، بل ازدادت حدة وانفصامًا.

بالطبع لا يمكن للموتى الحديث، ولكن، ربما إن تكلموا لن يقدموا إضافة جديدة لحالة الصراع هذه. فالصراع الآن لم يصبح صراعهم، والخلاف انتقل لأطراف أخرى، فقط تنتسب لهم.

ملاحظة مبدئية: التالي ليس فحصًا لمن هو على صواب ومن هو على خطأ في ذلك الصراع؛ أو مَنْ مِنَ الطرفين قد قدّم الأرثوذكسية الحقة؛ لكن هو تقييم لأحد تلك المشروعات اللاهوتية التي سببت نزاعًا وانقسامًا ربما سيظل قائمًا لتاريخٍ لا يعلمه إلا الله.

2. بداية مشروع جورج حبيب اللاهوتي، والصدام

تحددت ملامح المشروع اللاهوتي للدكتور جورج حبيب بباوي في وسط الحركة الشبابية الناشئة -والتي كان المتنيح البابا شنودة الثالث جزءًا منها- في منتصف القرن الماضي، وقد أعلنت إعادة اكتشاف النصوص الآبائية اليونانية، والتي اِعْتَبَر رُوادها أنها قد غابت عن الساحة القبطية لفتراتٍ طوال منذ الانتقال الى اللغة العربية كلغة حياتية يومية. وصار للمشروع الناشئ هدف واحد رئيس وهو استعادة ذلك التراث الغائب، وتقديمه مرة أخرى للفكر القبطي.

لكن، ولأسباب فكرية متعددة، انقسم هذا المشروع إلى تيارين. وربما سرّعَ خلافًا شخصيًا هذا الانقسام. لكنه كان انقسامًا وصدامًا محتومًا. التيار الأول، عبّر عنه المتنيح الأب متى المسكين، ود. جورج حبيب، ولاحقًا مركز الدراسات الآباء وغيرهم. في حين أن التيار الثاني، عبّرَ عنه قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث، ولاحقًا المتنيح الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ والبراري. ليتحول مشروع العودة إلى الآباء إلى صراع فكري بين تيارين.

وهكذا، اعتمد جورج دائمًا على ما اسماه التسليم الأرثوذكسي في مواجهة ما اسماه البابا شنودة أيضا التسليم الكنسي. والأكثر، أن كل منهما أعتبر نفسه هو مالك الحقيقة المُطلقة بدون أي احتمالية للخطأ. في كتابه القديس أثناسيوس في مواجهة التراث الديني غير الأرثوذكسي (2009) كتب جورج حبيب "القضية الأساسية التي نطرحها على صفحات هذا الكتاب هي: إما أن نقبل التقليد لنبقى في الأرثوذكسية، أو نترك الأرثوذكسية للذين يقبلون التقليد الأرثوذكسي." (ص10). فيما اعتبر البابا شنودة أن ما يقدمه جورج حبيب (والأب متى المسكين) هو "بدع حديثة" تأثر أصحابها بالانحرافات الفكرية في بلاد الغرب (بدع حديثة، 2006، ص5).

3. التفكير اللاهوتي للبابا شنودة، وجورج حبيب

كان لجورج حبيب مشروعًا لاهوتيًا واضح المعالم على عكس البابا شنودة الذي لم يكن يسعى لصياغة أو بلورة أو إعادة طرح لاهوت معين، لكن كان مشروع البابا شنودة علي النقيض مشروعًا شعبويًا (بالمعنى المحايد للكلمة) أي يستهدف مخاطبة رجل الشارع بلغة حياتية -وهو أمر مَأْثُور- ويهدف إلى الحفاظ على ما اسماه التراث والتقليد المستلم عبر العصور السابقة لتوليه كرسي البطريركية. وذلك في مراعاة ووعي تام بالسياق الإسلامي المحيط، دفعه لانتقاء مصطلحات بعينها واستبعاد مصطلحات أخر قد تسبب التباسا لذلك السياق وتدفع لحالة تكفير للأقباط بلا داع.

وكنتيجة، أثر على تقييم البابا شنودة لأطروحات د. جورج، موقفه الدفاعي وتحسبه من ردة الفعل الإسلامية على العقائد المسيحية، ومحاولته وضع مقاربات ولو غير مباشرة بين الاثنين (أي بين المسيحية والإسلام) في حيلة دفاعية لتَجَنُبِ الصدام، جعلته يُفضل اللاهوت القبطي الذي تطور في العصور الوسطى -في سياق مُقارب للسياق الحاضر- وهو موقف من المحتمل انه قد تبلور بسبب نشأته السياسية التي تؤسس لأساليب الدفاع. وقد صارت المصطلحات التي استخدمها جورج حبيب -مثل مصطلح التأله- والتي اعتبرها استردادا للتعليم اللاهوتي الآبائي، رآها البابا شنودة تُمثل تهديدًا في إطار مشروعه الدفاعي في مواجهة السياق الإسلامي. (يُشير قداسة البابا شنودة في كتابه بدع حديثة ص159، أن ادعاء الشركة في اللاهوت، هو "بعض مما يسميه أخوتنا المسلمون الشرك بالله!!").

وهنا أود التنويه، أن هذا المقال يهدف إلى نقد مشروع جورج حبيب اللاهوتي، وليس مشروع البابا شنودة؛ ولا يعني هذا بالضرورة أنني أتفق مع واحد دون الآخر، بل أنني أختلف مع الإثنين في كثيرٍ من الأمور، وأتفق معهما أيضًا في أمورٍ أخرى.

4. تحليل لمشروع جورج حبيب اللاهوتي

4. 1 الأرثوذكسية

أدى هذا الصراع إلى اختصار وتحديد مشروع د. جورج اللاهوتي، وبدلاً من أن يتحول إلى مشروع لاهوت سياقي حداثي، ارتد إلى مشروع قومي تراثي ذي أفق محدد النطاق مرتبط بالهوية القبطية والأرثوذكسية. أو ربما كانت هذه إرادة جورج حبيب الأصيلة دون التفات إلى الصراع. وهو مشروع يهدف لما اسماه استرداد اللاهوت الأرثوذكسي والتراث الآبائي في مواجهة ما اسماه اللاهوت المدرسي المتأثر بالإسلام. وفي موقع جورج حبيب الرسمي على الإنترنت "كوبتولوجي: موقع الدراسات القبطية الأرثوذكسية"، وفي القسم الخاص عن الموقع: الرسالة" نقرأ الهدف من الموقع: "فتح كنوز تراثنا القبطي الأرثوذكسي الممتد عبر ما يزيد على 1700 سنة. تراثٌ شمل حياة القداسة في الكتابات النُسكية، والرؤية اللاهوتية الكونية لمدرسة الإسكندرية، والمؤلفات الدفاعية عن الإيمان..."

ارتكز مشروع جورج حبيب على موضوع رئيس وهو "الأرثوذكسية" كهوية identity. بالنسبة إليه، فالأرثوذكسية هي موضوع ثابت static التعريف ويُعبر عنه قبول "التقليد": "إما أن نقبل التقليد لنبقى في الأرثوذكسية، أو نترك الأرثوذكسية للذين يقبلون التقليد الأرثوذكسي." (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث الديني غير الأرثوذكسي، 2009، ص10). وبعبارة أخرى "ما نسميه التسليم أو التقليد، هي الأرضية السليمة الأصلية للبنية اللاهوتية الأرثوذكسية." (المدخل إلى اللاهوت الأرثوذكسي، 2012، ص 115) والتسليم/التقليد هو "ما تحتفظ به الكنيسة وتنقله بدقة." (المدخل إلى اللاهوت الأرثوذكسي، 2012). يربط جورج حبيب بين الأرثوذكسية وبين "الحدس intuition" وهو "إدراك فوري لا دخل للحواس الخمسة فيه" وهو موضوع سرائري mystical حيث "يُشرق نور معرفة أشياء كثيرة" بالروح القدس. (الاستحالة السرية، واسترداد الوعي السرائري المستيكي 2014، ص5، 6). ولذلك فبالنسبة لجورج حبيب "الإيمان هو دعوة لأن نحيا ليس حسب المعارف الحسية" (الاستحالة السرية...، ص7) أو ما يُسميه "تراثنا المستيكي" (الاستحالة السرية...، ص10).

يَعتَبِرُ جورج حبيب أن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية، قد حادت عن الأرثوذكسية المُنضبطة أي قبول "التقليد الأرثوذكسي" (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث...، ص10)، وهو بهذا يُشير ضمنيًا إلى تقليد عالمي وثابت ومحدد للأرثوذكسية. ولذلك، فبالنسبة له فالأرثوذكسية هي موضوع ثابت لا يتطور.: "فالعقيدة المسيحية كالتثليث والتجسد والصليب والقيامة... إلخ، واحدة شرقًا وغربًا. ومن يخطئ في العقيدة يكون هرطوقيًا. أما شرح العقيدة، فهو متعدد، فيوجد شرح أرثوذكسي له عناصره- ...- وشرح غير أرثوذكسي. ومن يُخطئ في شرح ما لعقيدة ما، يكون شرحه لهذه العقيدة غير أرثوذكسي." (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث...، ص13).

ومن هنا افترض جورج حبيب امرين. الأول: حاجة الكنيسة القبطية إلى مراجع أرثوذكسية في اللاهوت العقيدي، الطقوس الكنسية، التاريخ الكنسي، الكتاب المقدس، والقانون الكنسية. الثاني: هو العودة إلى كتب الآباء. ونبه إلى ثلاثة أخطار رأى أنها تواجه الكنيسة القبطية: أولا: الفكري اللاهوت الذاتي الذي يعتمد على خبرة ومعرفة ذاتية. ثانيًا: الفكر اللاهوتي الكتابي الذي يكتفي بالكتاب المقدس وحده. ثالثًا: الفكر اللاهوتي العقلاني الذي يعتمد على المنطق والمعرفة البشرية. (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث...، ص24).

ويرى أن الشرح الأرثوذكسي للعقيدة يلزمه ثلاثة عناصر. أولاً: أن يكون في الإطار اللاهوتي الشامل الذي يضم كل العقائد. ثانيًا: يقوم على أساس ما يحدث في الليتورجيا. ثالثًا: يقوم على أساس ما استقر في التقليد الكنسي نفسه لأي شرح للعقيدة. (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث...، ص27). هنا يعتبر جورج حبيب أن الشرح الأرثوذكسي هو الذي استقر في التقليد الكنسي.

 هكذا اعتبر جورج حبيب أن الأرثوذكسية تشمل كل من العقيدة وشرحها. بالرغم أنه يُفترض أن الثابت دائمًا هو العقيدة نفسها، وهو ما أشار إليه ايرينيوس في شرحه لمضمون التقليد/إقرار الإيمان. بينما، المُتغير والمتطور دائمًا هو شرح العقيدة، الذي يَكتسب معانٍ جديدةٍ مع تغير السياق، والثقافة، والأوضاع الاجتماعية السائدة. وهو ما حدث مع الكُتاب المسيحيين الأول وآباء الكنيسة في شرحهم للعقائد المسيحية عبر العصور، فقد تطورت الشُروح واكتسبت معانٍ إضافية وأكثر غنى وتنوعًا. لكنه يعود ويقرر أن الثابت هو كل من العقيدة والشرح.

4. 2 مفهوم الفداء كمثال للاهوت جورج حبيب: تحليل

رأى جورج حبيب أن الشُروح الغربية لعقيدة الفداء فشلت في فهم لاهوت الأسرار (القديس أثناسيوس في مواجهة التراث...، ص30: 38). هنا نقف أمام عدة نقاط.

النقطة الأولى: يمتنع جورج حبيب عن افتراض وجود تعددية أبعاد في الفعل الفدائي، ويتمسك بوجود بعدٍ واحدٍ له. وهو يعتبر شرحًا مثل شرح أنسلم أسقف كانتربري للفداء هو مناقض أو بعيد تمامًا عن الفكر الآبائي. وهذا صحيح بصورة جزئية، فشرح أنسلم (ذو الُبعد القضائي-الإقطاعي السياق) مُختلف عن شرح أثناسيوس (ذو الُبعد الأفلاطوني-الرواقي السياق). وبالرغم من هذا التباعد، إلا أن أنسلم، كان مُدركًا تمامًا لشرح أثناسيوس، واستخدمه في شرحه للفداء لكن مع إعادة قراءته في سياقه القروسطي (Cohen 2004; Cohen 2011; Davies & Leftow 2004) مستخدمًا نفس التعبيرات: حكم الموت، نيابة، فدية، موفيًا دين...إلخ لكن حَمَّلَها أنسلم أبعادًا أخرى ومعانٍ تتسق مع سياقه وعصره.

النقطة الثانية: لا يربط جورج حبيب بين تطور مفهوم الأسرار في الكنيسة القبطية، وتحدديها بالرقم سبعة، وبين تطور الشُروح العقيدية. فبالرغم من أنه ينتقد كل منهما على حدة، إلا أنه في انتقاده أن الشُروح الغربية التي دخلت إلى التقليد القبطي فشلت في فهم لاهوت الأسرار، يفترض أن لاهوت الأسرار ظل مستقر التعريف بينما هو في الحقيقة قد تطور هو الآخر، ليتسق مع تطور شرح عقيدة الفداء. لذا كان عليه أن يُقارب مفهوم الفداء القبطي الحالي في ضوء مفهوم الأسرار المُستقر الآن أيضًا. قَدَّمَ جورج حبيب نقدًا قويًا لنظرية الترضية -وليدة عصرها التي بلورها أنسلم أسقف كانتربري في القرن الحادي عشر. وأصر على الشرح الأثناسي كالشرح الوحيد الأرثوذكسي والأمثل لعقيدة الفداء، وهذا يتسق بالتأكيد مع مشروعه اللاهوتي التراثي الذي يبتعد عن ولا يقترب من الحاجة للاهوت سياق، أي الحاجة إلى تقديم شُروح جديدة وإجابات جديدة تتسق مع تساؤل "كيف نكون مسيحيين؟" في هذا العالم الجديد.

نقطة ثالثة: وهي أنه مثلما اعترض جورج حبيب على انتقاء آيات من الكتاب المقدس واستخدامها في الشرح دون العودة الآباء؛ تجنب الحديث عن الشروحات الآبائية يمكن استخدامها بطريقة انتقائية جدًا لخدمة شرحًا مُحددًا. ووقع هو في فخ الانتقائية في اقتباساته من النصوص البروتستانتية، وفسرها حسب رؤيته هو.

يأتي أيضًا مفهوم التأله، أو الشركة في الطبيعة الإلهية كجزء من لاهوته عن الفداء. أثناسيوس هو المرجع الرئيس لجورج حبيب في أطروحته عن التأله. وهي أطروحة شديدة الوضوح لا يمكن تأويلها إلى تلك العبارات التي أتهمه بها خصومه. والتأله هو الموضوع أصيل وجِذْري في مشروع جورج حبيب اللاهوتي، حيث إنه يُعبر عن جوهر المسيحية أي "استرداد الإنسان" الذي سقط.

فِهْمُ جورج حبيب الأنثروبولوجي هو المُؤسس لتبنيه الشرح الأثناسي الكلاسيكي للفداء. فالأنثروبولوجيا هي الشارحة والمؤسسة لأي فهم لعقيدة الفداء. يمكن هنا استدعاء نموذج كلاسيكي لتلك النقطة. فأنثروبولوجيا ايرينيوس -على سبيل المثال- تُفرق بين الصورة والشبه في خلقة الإنسان، وترى الإنسان مخلوق في مسيرة سعي نحو الكمال حيث خٌلق كطفل صغير "لم يكن لديه بعد إرادة ناضجة، لذا خُدع بسهولة من المضلل" (الكرازة الرسولية 12) وبالتالي "لم يحفظ الوصية ولا أطاع الله... فطرده الله من حضرته" (الكرازة الرسولية 16). بالإضافة لذلك، قدم ايرينيوس أيضا مفهومًا بسيطًا للخير والشر -فهو لم يقدم شرحًا أنطولوجيا أفلاطونيا لهذه المصطلحات مثل أثناسيوس- "الخطيئة التي حدثت بواسطة الشجرة، أزيلت بواسطة الطاعة على الشجرة التي صُلب عليها ابن الإنسان، مطيعًا لله..... لأن الشر يتمثل في عصيان الله، أما الخير فهو طاعة الله" (الكرازة الرسولية 34) لذا فبواسطة الصليب حدث الغفران: "هكذا بواسطة الموت، موت الصليب وطاعته غفر العصيان الأول الذي حدث بواسطة الشجرة" (الكرازة الرسولية 34) لذلك فالخلاص ضروري بالنسبة له بسبب السقوط وليس الخطية (ضد الهرطقات 3. 19. 1).

لكن اختلف التأسيس الأنثروبولوجي للفداء عند أثناسيوس عنه عند ايرينيوس، فهو تأسيس أنطولوجي. تبدأ الأنثروبولوجيا -والكوزمولوجيا- عند أثناسيوس بالخلق من العدم ex nihilo "لكن الله خلق كل شيء بالكلمة من العدم وبدون مادة موجودة مسبقًا" (تجسد الكلمة 3. 1)، والخلق على الصورة "ولأنه رأي عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائمًا على الحالة التي خُلق فيها، أعطاه نعمة إضافية، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته." (تجسد الكلمة 3. 3). تحمل الرؤية الأنثروبولوجية لأثناسيوس مصيرًا تشاؤميًا للإنسان في حال انفصاله عن الله، فقد خلق الله الإنسان في أكمل صورة لكي يبقى معه دائمًا "وهكذا خلق الله الإنسان وكان قصده أن يبقى في غير فساد. أما البشر فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكروا في الشر وابتدعوه لأنفسهم كما أشرنا أولاً، فقد حكم عليهم بالموت.... لأن تعدي الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجدوا من العدم هكذا أيضًا بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن. 5. فإن كانوا وهم في الحالة الطبيعية- حالة عدم الوجود، قد دُعوا إلى الوجود بقوة الكلمة وتحننه، كان طبيعيًا أن يرجعوا إلى ما هو غير موجود أي العدم عندما فقدوا كل معرفة الله. ولأنهم حصلوا على وجودهم من الله الكائن، لذلك كان لابد أن يُحرموا إلى الأبد من الوجود، وهذا يعني انحلالهم وبقائهم في الموت والفساد" (تجسد الكلمة 3. 4-5). من المُرجح، واعتمادا على تفكير أثناسيوس الأفلاطوني النزعة، أن الخلق من العدم والموت والفساد لا يصف حالة تاريخية أو مادية بقدر ما هو يصف حالة وجودية (أنطولوجية). فالوجود في حالة انفصال عن الله هي حالة وجود متغيرة وزائلة بينما الوجود في حالة اتحاد مع الله هو حالة وجود ثابتة وخالدة (قارن أفلاطون). فالله هو "صالح، بل بالأحرى مصدر الصلاح" (تجسد الكلمة 3. 3) هو الوجود المطلق والثبات (قارن أفلاطون). كذلك يستخدم أثناسيوس المتضادات الأفلاطونية: "ماله كينونة فهو الخير، أما الذي لا كينونة له فهو الشر، وأقول إن ما له كينونة فهو الخير لأنه يجد له نموذجًا παραδείγματα في الله الكائن. وما لا كينونة له فهو الشر لأنه دون أن يوجد في الواق"] (ضد الوثنيين 4. 4). تحمل فكرة "النموذج" هنا تأثرًا بنظرية المُثل forms لدى أفلاطون ولاحقًا أرسطو. (قارن أيضًا مع افلوطين/الأفلاطونية المحدثة). الخلاص هنا يتم من خلال تنازل إلهي من أجل إعادة توجيه الإنسان وجذبه نحو الصعود لله مرة أخرى: حيث يتنازل الله الكلمة ليصير إنسانًا، آخذًا الإنسان معه صعودًا ليصير إلهًا، في مقاربة مُختلفة عن تلك التي قدمها ايرينيوس عن الصليب والغفران.

هكذا، لم يخرج جورج حبيب من عباءة الشرح الأثناسي الأفلاطوني لكنه اعتنقه منفردًا، دون أي محاولة للانفتاح على مساحة أكثر تعددية في الشُروح. في حين أن الانفتاح على مقاربات لاهوتية وشروح سياقية لعالمنا اليوم كانت لتؤدي لفهم أكثر عمقًا وشمولاً لمفهوم الفداء. ربما، أدى إلى ترسيخ هذا الموقف الساكن، الهجوم الذي تعرض له. فعلى الجانب الآخر رفض كل من البابا شنودة والأنبا بيشوي شروح جورج حبيب وتمت مُهاجمته بشدة.

4. 3 مثال لصراع الشرق والغرب عن جورج حبيب: الاختلافات بين أثناسيوس وأنسلم

في كتابه القديس أثناسيوس في مواجهة التراث اللاهوتي غير الأرثوذكسي، وفي المبحث الثاني (ص141) وتحت عنوان "أهم الاختلافات بين القديس أثناسيوس وأنسلم" عن الفداء، يقول جورج حبيب "سلك أنسلم طريقًا خاصًا مختلفًا عن الطريق الذي سار فيه كل الآباء حتى في الغرب نفسه... إلا أن ما قدمه هو نفسه لم يكن سليمًا من عدة نواحي." الأمر الذي نحن بصدده هنا، ليست نتيجة التقييم، لكن كيفية التقييم. وضع جورج حبيب الشرحين كل منهما في مواجهة الآخر، وكأنهما وليدا لعصرٍ واحد، ولغة واحدة، وسياق واحد، ويستهدفان نفس القراء ونفس المستمعين. وهو خلل كبير في الكيفية.

كل من أثناسيوس وأنسلم بينهما بونًا شاسعًا في سياقتهما. فأثناسيوس، التلميذ المُخلص للأفلاطونية المُحدثة، هو نتاج عصر فلسفي، وجه خطابيه "ضد الوثنيين" و"تجسد الكلمة" إلى مستمعين يونانيين الثقافة والهوية. مٌستخدمًا آليات وأدوات خطابية وفلسفية تتناسب مع ثقافته وعصره ومستمعيه. في حين، أنه هو نفسه استخدم مقاربات وأدوات أخرى في كتاباته ضد الأريوسيين وذلك لاختلاف السياق. على الجانب الآخر، كان سياق أنسلم وهدفه مختلفًا تماما. في الفصل الأول من كتابه "لماذا صار الله إنسانًا" يكشف أنسلم عن سبب مقاربته هذه " غالبًا ما يُطلب مني بكل جدية، إن شفهيًا أم تحريريًا، من قبلِ العديدِ من الأشخاص، أن أطرحَ سجلًا مكتوبًا للتفسيرات المنطقية التي اعتدتُ على إجابة الأشخاص الذين يطرحون فيها أسئلة حولَ سؤالٍ مُعين بخصوص إيماننا..... لا يقتصر هذا الأمرُ على الأشخاص المثقفين الذين يعرفون القراءة والكتابة فحسب، بل حتى الأميون منهم يطرحون العديدَ أيضًا من الأسئلة، ويتوقون إلى تفسير عقلاني.... إذن اسمحْ لي أن أستخدمَ الكلمات المميزة لغير المؤمنين. لأنه وهو أمرٌ عادل فقط، أننا في الوقت الذي نحرص فيه على استكشاف منطق إيماننا، لكشف اعتراضات أولئك الذين هم غيرُ راغبين تماما في بلوغ هذا الإيمان دون سبب منطقي للقيام بذلك. وأقر أنهم يبحثون عن المنطق لأنهم لا يؤمنون، في حين أننا نبحث عنه لأننا نؤمن." تاليًا، استخدم أنسلم تفسيرًا عقلانيًا منطقيًا لشرح الإيمان لغير المؤمنين من سياق عصره وهو عصر الإقطاع. يحث صور الموقف وكأن الله لورد إقطاعي يبتغي ثمنًا للعصيان والخطية. وضع أنسلم كتابه لماذا صار الله إنسانًا Cur Deus Homo? من أجل بناء حجة لغير المسيحيين وقد وضع حجة مبنية على المنطق وحده sola ratione.  وقد استخدم أنسلم بالفعل لغة إقطاعية. وبالرغم من هذا، كل من أثناسيوس وأنسلم اتفقا على المبدأ الرئيس، يقول أنسلم في (1. 4) " بالتأكيد يبدو أن هناك سببًا مقنعًا كافيًا ومسببا لماذا قد احتاج اللهُ حاجة القيام بالأشياء التي نتحدث عنها: الجنس البشري، من الواضح أن أغلى قطعة عمل خلق له كانت قد خربت بالكامل فلم يكن من المناسب أن ما كان الله قد خططه للبشرية يبطل هكذا تمامًا، ولا يمكن إلغاء الخطة المعنية ألا تدخل حيزَ التنفيذ إلا إذا حرَّر الجنس البشري بواسطة خالقه شخصيا." وهو نفس منطق أثناسيوس. كل منهما أيضًا، رأي أنه لم يكن هناك بدًا أمام الله غير التجسد لخلاص الإنسان، فكل منهما وضع الله في ذلك المأزق أنه إما التجسد للخلاص أو فناء الإنسان، لا طرق أخرى يمكن لله استخدامها لإنقاذ الإنسان. بل أن أنسلم يكشف عن معرفة جيدة بنصوص أثناسيوس.

قرأ جورج حبيب كل من أثناسيوس وأنسلم على طريقته الخاصة. لا في سياقهما وظروفهما، ولا حتى قراءة محايدة تتيح له فهم التباين والاتفاق بين الإثنين. فبالرغم من الاختلاف، فهناك نقاط عدة في الاتفاق. لاحظ مرة أخرى، أنا لا أناقش هنا صحة أيًا من الشرحين -إذا جاز التعبير- لكن منهجية جورج حبيب في مقاربة للأمور.

الفكرة الأساسية في التعليم البروتستانتي

في عمله الرئيس والأضخم والأكثر لاهوتية "موت المسيح على الصليب"، اعتبر جورج حبيب أنه "لاتزال الفكرة الأساسية في هذا التعليم [البروتستانتي] هي أن الله دفع الغرامة إلى الله." (2006، ص35-36). في الواقع لم يستطع جورج حبيب إدراك الفكرة الرئيسة للتعليم البروتستانتي، كما أنه تعامل معه على أن التفكير اللاهوتي البروتستانتي هو تيار واحد. ومثلما عاب على البعض اقتطاع النصوص من سياقها، وقع في نفس الفخ ليقتطع هو نصوصًا أيضًا من سياقها وأبعادها لتأكيد أفكاره عن اللاهوت البروتستانتي.

في الواقع الفكرة الرئيسة في اللاهوت البروتستانتي هي "كيفية المُصالحة بين الله والإنسان" والتي يتبعها ويرتبط بها بشكل مباشر القضية الأكثر أساسية وهي "التبرير." بعبارة أخرى: كيف يُعبر الله عن قداسته بالدينونة وعن محبته بالعفو؟  أن الله يتصرف باتساق وانسجام دون تغيير وبملء كينونته الأخلاقية (ستوت، موت المسيح، 152)، يجيب ستوت: "استطاع ذلك فقط بتأمين بديل إلهي للخاطئ، بحيث يتلقى البديل الدينونة [والعقاب المستحق عن مسؤولية الأنسان وتمرده] وينال الخاطئ العفو." (ستوت، 152). مسألة دفع الثمن تقع في قلب "قضية المصالحة"، يقول ستوت: ""أن حل مشكلة الخطية الإنسانية يلزم أن يأخذ قداسة الله بالحسبان التام. كيف استطاع الله إذن أن يُعبّر في آن واحد عن قداسته بالدينونة وعن محبته بالعفو؟ يكمن الجواب في إبدال الله نفسه بنا." (ستوت، 421).

يُعاني جورج حبيب من نفس المُشكلة في قراءته لجون كالفن. فهو لا يقرأ كالفن مثلما كتب كالفن، بل يقرأ كالفن مثلما أراد جورج حبيب أن يفهمه. لا داعي للدخول في تفصيلات أكثر هنا، فالأجزاء السابقة توضح مشكلة جورج حبيب في قراءة الآخر المُغاير له.

في ختام هذا الجزء، لم يكن هذا تحليلا شاملاً لمشروع د. جورج حبيب بباوي اللاهوتي، بقدر ما هو تحليل للصورة العامة بصورة موجزة لفتح الطريق أمام تحليلات أكثر عمقًا وأكاديمية.

5. ما هو المشروع اللاهوتي الذي تحتاجه الكنيسة الأرثوذكسية القبطية؟

يُمكن القول إن كل من البابا شنودة وجورج حبيب بباوي لم يصيبا في تقديم الأطروحة اللاهوتية التي تُناسب السياق المُعاصر. فالبابا شنودة جعل اللاهوت والتفكير القبطي أسير حالة الدفاع، مُتحسبًا لأي هجوم، ومنعزلاً في حالة من الشعور الدائم بالاضطهاد والتمييز والتهديد. أما جورج حبيب فسعى لصياغة لاهوت يتناسب وعصرٍ ذهبيِ قد مضى وانتهى سياقه. وأدى لصناعة لاعتبار الأرثوذكسية أيدولوجية قومية مُتعصبة، كنظيراتها في روسيا والبلقان واليونان.

نحن مدعون أن نحيا كما طالبنا الله. لكن السؤال كيف يمكن أن نحيا هذه الحياة المسيحية في ظل أوضاع جديدة ومتغيرة؟! إن الإصرار على إجابات قديمة لم تعد تستطيع الإجابة على معاناة البشر وصراعاتهم اليومية، ولم تعد تتناسب مع متغيرات العصر والقضايا الجديدة التي تبزغ يومًا بعد يوم خاصة تلك الأخلاقية منها، يجعل كثيرون يعتقدون أن يسوع هو بعيد المنال، بعيد عن الآمهم وصراعاتهم اليومية، وان المسيحية هي ديانة الماضي وان الله هو محض خيال. هذا لا يعني الانفصال عن الاستقامة اللاهوتية orthodoxy. فلاهوت السياق لا بد أن يراعي "استقامة التطبيق" orthopraxy و "استقامة الإيمان" orthodoxy. ويصير الكتاب المقدس هو "نص حي" يمثل الانطلاق منه نحو البيئة المعاصرة، فلا يعود النص مجرد حرف جامد، بل يصبح قابلا للقراءة والتأويل على خلفية الوضع الاجتماعي، السياسي، الثقافي والاقتصادي لمجتمع ما أو جماعة بشرية ما.

وعلى اللاهوت القبطي أن ينفتح على اللاهوت المعاصر أولا، وعلى العلوم الإنسانية ثانيًا. وقبل أن ينطلق في صياغة لاهوت سياقي، عليه أن يدرس جيدًا تجارب الشعوب الأخرى واللاهوتيين المعاصرين في صياغة لاهوتهم السياقي، ثم يقوم بدراسة السياق المصري جيدًا بكل أزماته وصراعاته الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، النفسية، الفلسفية، والدينية. نقطة التوازن الحقيقية هي التخلي عن المخاوف التي كانت تهدد الماضي –آريوس ونسطور وخلقيدونية- الاعتزاز بالماضي، واستلهامه لكن فهمه في سياقه ووقته، ومن ثم الاستفادة من دروسه وعِبره لا استنساخه كما هو من أجل صب الحاضر في قالبه. التمسك بأرثوذكسية العقيدة كما دونها الآباء الأول، مع الانفتاح على شُروح وأبعاد متعددة للفهم.

يحتاج اللاهوت القبطي أن ينتبه للأوضاع الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية والسياسية؛ فلا يزال هذا الدور الهام جدا للاهوت غير ملتفت إليه في مصر. هناك قضايا هائلة وشائكة يموج بها المجتمع المصري مثل المثلية الجنسية، الانتحار، الخلل الاجتماعي، الإجهاض، ...وعشرات القضايا الأخرى التي تحتاج رؤية لاهوتية ومعالجة لاهوتية حقيقية. لا مجرد فتوى دينية بالتحريم أو التحليل، أو ارتداد للتراث في سياقه القديم.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

الثاليا: قصيدة آريوس، مقدمة وترجمة

الآريوسية هي المسيحية الحقيقة: "المسيحية الموحدة بالله"، قَدَمَ هذه الفكرة أحد الكتاب المصريين ونشرها في احد الجرائد الرسمية، وكتب عدة مقالات متفرقة عنها. ووصف آريوس والآريوسيين بالـ "مسيحيين الموحدين بالله"، وكان القصد من ذلك الإشارة أن المسيحية الأرثوذكسية التي واجهت للآريوسية لم تكن موحدة بالله لوجود فكرة الثالوث ، وان آريوس – كحامل للمسيحية الصحيحة- قدم المسيح كإنسان ونبي. لكن في مجمع نيقية تم الحكم على آريوس ظلمًا وإختراع فكرة الثالوث وتأليه المسيح.