التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الجلاد والبريء: البابا شنودة وجراح جورج حبيب بباوي- تعليق على كتابِ لم يَصدُر بعد

 



من عنوانِ بدا مهينًا، لغلافٍ أثار جُفًول كثريين؛ أنشأ كتاب الصحفي روبير الفارس والمُعنْون: "الجلاد والبريء: البابا شنودة وجراح جورج حبيب بباوي" حالة من الاستنفار، والاستقطاب (الموجود أصلاً) بين مُرحب ومُعارض. الكتاب لم يُطرح في الأسواق بعد، والمُحدد له أن يظهر للنور لدى الناشر "روافد" في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021. وبحسب التكهنات فمن المُرجح أن تتجاوز عدد صفحاته الخمسمائة، وساهم في الكتابة عدة مشاركين من شتى المآرب.

ما الذي يُعبر عنه الكتاب؟

حتى لم الآن لم يتاح لأحد الاطلاع على محتوى الكتاب. لكن، هناك عدة أمور يجب أخذها في الاعتبار قبل النظر إلى محتوى الكتاب.

أولا: الكتاب ينتمي للكتابة الصحفية، هو ليس كتابًا لاهوتيًا أو كنسيًا. والكتابة الصحفية لها أساليبها وآليتها المُختلفة. وعليه، عند التعامل مع العنوان، أو الغلاف -والذي سحبته مصممته ويبدو أنه سيتم تصميم غلاف آخر- يجب التعامل معه على هذا الأساس. فالكاتب الرئيس صحفي، ودار النشر هي دار نشر عامة. وهذا ينقلنا للنقطة الثانية وهي العنوان.

العنوان كأداة صحفية، يهدف لإغواء القارئ بإثارة انتباهه ودفعه إلى حالة تفاعل وتساؤل داخلي، وربما اشتباك خارجي. العنوان في الصحافة هو القوة الترويجية بعيدًا عن جودة المحتوى. العنوان في صياغته نجح في تحقيق مقصده، وهي صنع حالة الجدل التي تلفت انتباه القارئ وتدفعه لاقتناء وقراءة المحتوى، وهذا عمل الصحافة. يجب تقييم العنوان إذًا باعتباره عنوانًا صحفيًا، لا عنوانًا كنسيًا.

وهنا تأتي النقطة الثالثة. هل العنوان يحمل إساءة؟ في الصحافة وحرية التعبير، فهذا سؤال لا يفترض طرحه. كل شيء وكل الشخصيات العامة هي عُرضة للنقد وأحيانًا السخرية. لا يوجد قديسون على طوال الطريق، ولا يوجد خطاة على طوال الطريق أيضًا. لكن كل البشر، في نظر الصحافة، يجيدون أوقاتًا ويسقطون في أوقاتٍ أخرى. في رأيي، أن روبير ليس صاحب هذا العنوان، بعبارة أخرى فقد صاغ ما هو قائم بالفعل على أرض الواقع في هذا العنوان.

في رأيي أيضًا، أن العنوان تلاعب بصورة بارعة بالقراء. فالعنوان يمكن تفكيكه بطريقتين: "جلاد الهراطقة والبريء" أو "جلاد الأبرياء والبريء" وفي حين يحمل التفكيك الأول إنصافا للبابا شنودة الذي رآه عموم الشعب القبطي مدافعًا عن الإيمان وجلادًا للهراطقة، فالعنوان الثاني يحمل وجهة نظر الذين رأوا في جورج حبيب بريئا ومظلومًا وفي البابا شنودة جلادًا. لكن أيًا من التفكيكين يقصد المؤلف؟ لا، يمكن أن نعرف دون قراءة الكتاب. لكن، يمكن القول إن الكتاب يحوي في داخله نقدًا لمشروع جورج حبيب اللاهوتي وأسلوبه، وأيضًا نقدًا للبابا شنودة، حيث إن المشاركون في الكتاب لهم توجهاتهم المختلفة، وعليه ففي الكتاب كل من البابا شنودة وجورج حبيب بباوي مُختلف عليه، وفي هذا إنصاف إن صح التحليل. وعليه فالتأويل الأول للعنوان هو الأقرب للصواب. لكن، عودة لمن صاغ العنوان. العنوان ما هو إلا تعبير عما هو موجود على أرض الواقع. فهناك حالة استقطاب شديدة بين فريقيين كل منها يؤيد طرف ويرى الآخر جحيمًا، بالرغم من موت الرجلين. حالة الاستقطاب هذه، قائمة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وحتى اليوم. وهي متروكة دون حل أو تدخل من أحد. وهي حالة تورث من جيل إلى جيل دون دراية بأبعادٍ كثيرة كانت معلومة في زمانها وصارت خافية الآن. الفريقان موجودان منذ عقود، يتبادلان الاتهام، ربما حتى قبل أن يمتهن روبير الفارس مهنة الصحافة (ربما لا أكون دقيقًا هنا). وحالة الاستقطاب لاتزال تنمو، منشأة حالة من التصعب الأعمى، والاحتقان الداخلي. لكن لم يختلقها الكتاب، ولن يحلها الكتاب.

ماذا نفعل؟

على القارئ الرشيد أن يتعامل مع الكتاب على أنه عمل صحافي، يرصد ما هو موجود بالفعل وقائم في الوسط المسيحي القبطي. وعلى القارئ أيضًا ألا يُسيئ ترجمة العنوان دون أن يقرأ المحتوى، لا أنا ولا أنت قرأناه. لكن أعرف أن الكتاب يحوي مؤيدين ومعارضين لمشروع جورج حبيب بباوي اللاهوتي.

لكن، بعيدًا عن الكتاب وما قد يحتويه. فإن كان هناك من شخصٍ رشيد، فيجب البحث عن حل لفك حالة الاستقطاب والاحتقان القائمة. يجب إعادة قراءة الأحداث الماضية في ضوء مصلحة الحاضر. حالة المُحاسبة والمسائلة لن تصلح اليوم، ولن تفعل إلا أن تزيد الأمور تعقيدًا. علينا أن نعترف مثلما أشرت سابقًا أنه لا يوجد قديسون على طوال الطريق، فللكل سقطاته وعثراته. وعلينا أن نقبل ذلك دون الخوض في عثرات وسقطات من انتقلوا عن هذه الحياة. ماذا نفعل اليوم لكبح جماح هذا التوتر الذي قد يتسبب في انقسام الكنيسة في مستقبلٍ ليس ببعيد؟ هذا هو السؤال الوجودي لكنيسة اليوم في مصر.

26 يونيو 2021

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الإعتراف السري على يد الكاهن: دراسة تاريخية

الاعتراف السرى للكاهن Auricular Confession دراسة تاريخية قصيرة مقدمة: لماذا هذا النوع من الدراسات؟! قدمت من قبل دراسة خاصة بصوم العذراء من خلال تتبعه تاريخياً، وهذه هي الدراسة الثانية حول الإعتراف على يد الكاهن (وهو جزء من سر التوبة والإعتراف). الهدف من هذه الدراسات ليس إثبات أو نفي هذه العقائد والممارسات، لكنه محاولة لتأصيلها بقدر الإمكان. نحن نعاني في الكنيسة القبطية الإرثوذكسية من غياب التأصيل، أقصد ب التأصيل : القدرة على تتبع عقيدة أو ممارسة ما حتى نصل إلي جذورها في الكتاب المقدس والكنيسة الأولى، حتى تكون مبنية على أساس سليم وبالتالي نستطيع أن نضع لها دفاعاً قوياً تجاة المشككين. ماهو الإعتراف السري؟ "هو إقرار الخاطئ بخطاياه (تفصيلياً) أمام كاهن الله ، إقراراً مصحوباً بالندامة والأسف الشديد على ما فعله من شرور... و نيل الحل من رجل الله " [1] ، هذه الممارسة الخاصة عموماً بأسرار الكنيسة السبعة قد "مُورست منذا عهد الرسل" [2] .  (تابع بالأسفل)

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.